فصل: الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل السادس في العمرات التي تكتب للحاج:

وهذه نسخة عمرة اعتمرها أبو بكر بن محمد الأنصاري الخزرجي، عند مجاورته بمكة المشرفة في ستة سبع، وسنة ثمان، وسنة تسع، وسنة عشر وسبعمائة، للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون؛ وهي:
الحمد لله الذي جعل البيت مثابة للناس وأمنا، وأمن من فيه بالقائم بأمر الله ومن هو للإسلام والمسلمين خير ناصر، وجعله ببكة مباركاً، ووضع الإصر بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الطائفين والعاكفين الأواصر، وعقد لواء الملك بخير ملك وهو واحد في الجود ألف في الوغى: ففي حالتيه تعقد عليه الخناصر، وأطاب المقام في حرم الله تعالى وحرم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن يستحق السلطنة بذاته الشريفة وشرف العناصر، وسهل الطريق، إلى حج بيته العتيق، من المشارق والمغارب في دولة من أجمعت على محبته وورث الملك كابراً عن كابر، وأنطق الألسنة بالدعاء له من كل وافد إلى بيته الحرام على اختلاف لغاتهم واهتزت لوصف مناقبه المنابر.
أحمده على ما بلغ من جزيل إنعامه، وأشكره شكراً استزيد به من فضله ونواله وإكرامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد ه لا شريك له نعم الذخيرة لصاحبها يوم لقائه وعند قيامه، وأقولها خالصاً مخلصاً ويا فوز من كانت آخر كلامه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أشرف مبعوث إلى الحق دعي فجاء بأشرف ملة، فقال صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة» صلى الله عليه وعلى جميع آله وأصحابه خصوصاً على خليفته في أمته المخصوص بالسبق والمؤازرة والتصديق، مولانا أبي بكر الصديق، وعلى مظهر الأذان ومصدق الخطاب، مولانا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعلى من جمع على الأمة آيات القرآن، مولانا أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وعلي ابن عمه، وارث علمه، الجامع لجميع المآثر والمناقب، مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلى بقية الأنصار والمهاجرة، سادت الدنيا وملوك الآخرة، وسلم تسليماً كثيراً.
وبعد، فإن الله تعالى مالك الملك يؤتيه من يشاء من عباده، والخير بيده يفيضه على خلقه في أرضه وبلاده؛ فإذا أراد الله تعالى بعباده خيراً نصر ناصرهم ورفع عنهم الغلا، ودفع عنهم العدا، وولى عليهم خيارهم، فيقيمه من خير أمة أخرجت للناس، ليذهب عنهم الضرر ويزيل عنهم الباس، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينصف المظلوم من الظالم ويقيم منار الشرع المطهر.
ولما كان مولانا السلطان الأعظم، والشاهنشاه المعظم، الملك الناصر- خلد الله سلطانه- قد جمع في المحتد بين طارف وتالد، وورث الملك عن أشرف أخ وأعظم والد، وقامت على استحقاقه للسلطنة الدلائل، وألفه سرير الملك وعرف فيه من والده ومن أخيه- رحمهما الله تعالى- الشمائل؛ فهو المالك الذي لم يزل الملك به آهلاً ولم يزل له أهلاً، والسيد الذي لبس حلة الفخار فلم نجد له في السؤدد والفخار مثلاً، والملك الذي ما بدا الرائية إلا قيل: بحر طمى أو بدر تجلى، والمؤيد الذي خصه الله تعالى بعلو شأنه وارتقائه، ولم يرض مراقد الفراقد لعليائه، والكريم الذي ساد الأوائل والأواخر، وأضفيت عليه حلل المفاخر، والمنصور الذي أعطي على الأعداء قوة ونصراً، والناصر الذي اتسع مجال نصره فأخذ الكفار حصراً، وحكمت السيوف والقواضب فوضعت عن الأولياء إصراً، قد خصه الله تعالى بالعز والنصر كرة بعد كرة، وفضله على سائر ملوك الإسلام بالحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم مرة بعد مرة، ومرة أخرى إن شاء الله تعالى ومرة ومرة! كم سلك سنن والده وأخيه- رحمهما الله تعالى- بالغزاة فكان له كل مشهد مذكور، وعرف تقدمه وإقدامه فكان أعظم ناصر وأشرف منصور؛ يحمده الله تعالى والناس عن جميل ذبه عن الإسلام وحميد فعله، واستقل الجزيل فينيل الجميل لمن أم أبوابه الشريفة فلا يستكثر هذا من مثله؛ ما حملت راياته الشريفة كتيبة إلا نصرت، ولا وقف بوجهه الكريم في دفع طائفة الكفر إلا كسرت، ولا جهز عساكره المنصورة إلى قلعة إلا نزل أهلها من صياصيهم، ولا حاصروا ثغراً للكفار إلا أخذوا بنواصيهم،، ولا سير سرية لمواجهة محارب إلا ذل على رغمه، ولا نطق لسان الحمد للمجاهد أو سار الشاهد إلا وقف الحمد على قوله واسمه، فاختاره الله تعالى على علم على العالمين، واجتباه للذب عن الإسلام والمسلمين، وجعله لسلطانه وارثاً، وفي الملك ماكثاً، وللقمرين ثالثاً، ولأموره سداداً، ولثغور بلاد الإسلام سداداً، وفوض إليه القيام بمصالح الإسلام، والنظر في مصالح الخاص والعام، وعدق به أمور الممالك والأملاك، وأطلع بسعادته أيمن البروج فب أثبت الأفلاك وحمى الإسلام والمسلمين من كل جانب شرقاً وغرباً، وملأ بمهابته البلاد والعباد رعباً وحباً، وبسط في البسيطة حكمه وعدله، ونشر على الخلائق حلمه وفضله، وفرض طاعته على جميع الأمم، وجعله سيداً لملوك العرب والعجم، وأمن بمهابته كل حاضر وباد، ونوم سكان الحرمين الشريفين من كنفه في أوطإ مهاد، وسكن خواطر المجاورين من جميع المخاوف، وصان بالمقام في مكة الطائف والعاكف؛ قد حسن مع الله تعالى سيرة وسيراً، ودلت أيامه الشريفة أنه خير ملك أراد الله تعالى برعيته خيراً، وراعى الله فيما رعى، وسعى في مصالح الإسلام عالماً أن ليس للإنسان إلا ما سعى.
قد ملأ أعين الرعايا بالطمأنينة والهجوع، وأمنهم في أيامه الشريفة بالرخاء من الخوف والجوع، وجمع لهم بين سعادة الدنيا والأخرى، وسهل لهم الدخول إلى بيته الحرام براً وبحراً، وفتح الله تعالى على يديه- خلد الله تعالى سلطانه- جميع الأمصار، وملأ من مهابته جميع الأقطار:
فسارت مسير الشمس في كل بلدة ** وهبت هبوب الريح في الفرب والبعد

فوجب على العالمين أن يدعوا لدولته الشريفة المباركة بطول البقاء، ودوام العلو والارتقاء، ووجب على كل من الواصلين إلى بيته الحرام وحضرة قدسه، أن يبتهل بالدعاء له قبل أن يدعو لنفسه، فكيف من هو مملوكه وابن مملوكه ووارث عبوديته، ومن لم يزل هو ووالده وإخوته في صدقات والده الشهيد- رحمه الله تعالى- وعميم نعمته، العبد الفقير إلى الله تعالى أبو بكر بن محمد بن المكرم الأنصاري الخزرجي، فإنه لم يزل مدة أيامه مبتهلاً بصالح دعواته، متوسلاً إلى الله تعالى بدوام نصره وطول حياته، طائفاً عند مقامه الشريف حول بيته الحرام، والمشاعر العظام.
وأحب أن يتحفه بأشرف العبادة فلم يجد أجل مقداراً ولا أعظم أجراً، من عمرة يعتمرها عنه ويهدي ثوابها لصحائفه الشريفة ويزيد بذلك فخراً، فقام عنه بعمرتين شريفتين اعتمرهما عنه في رمضان، مكملتين بإحرامهما وتلبيتهما، وطوافهما وسعيهما، يتقرب بذلك إلى أبوابه الشريفة، ويسأل الله تعالى ويسأل صدقاته الشريفة أن ينعم عليه بنصف معلوم صدقة عليه، وبنصفه لأولاده: ليقضي بقية عمره في الثلاثة المساجد، ويخصه بجزيل الدعاء من كل راكع وساجد، وأن يكون ذلك مستمراً عليه مدة حياته، وعلى ذريته ونسله وعقبه بعد وفاته، لتشمل صدقات مولانا السلطان- خلد الله تعالى ملكه- الأحياء والأموات، ويطيب لغلمانه في أيامه الشريفة الممات؛ جعل الله تعالى مولانا السلطان وارث الأعمار، وأجرى بدوام أيامه الشريفة المقدار وجعل كلمة الملك باقية في عقبه، وبلغه من النصر والظفر والأجر غاية أربه، وجعل أيامه كلها مسار وبشائر، ودولته تسر النواظر، وسعادته ليس لها آخر، ويهنئه بما قد أتمه الله له من ملك والده الشهيد رحمه الله تعالى:
أهنيك بالملك يا خير من ** أجار البرايا ومن مارها

ومن ليس للأرض ملك سواه ** تميل له الخلق أبصارها!

وأنت الذي تملك الخا ** فقين وإعصارها

وتملك سيب تكفورها ** وتركب بالجيش أوعارها

وتحكم في المرء حكم الملوك ** وتنشد في التخت أشعارها

وتفتح بغداد دار السلام ** وتنفي بملكك أكدارها

وتأخذ بالعسكر الناصري ** قصور الخلافة أوتارها

ويأمن في ذلك العالمون ** وتحمي الأسود وأوكارها

وتبقى إلى أن تعم البلاد ** بنعمى تتابع إدرارها

ويبلغ ملكك أقصى البلاد ** وتجري العبادة وأوطارها

وينظم سيرتك الناظمون ** وتعيي مغازيك سمارها

والله يبقيه بعدها دائماً ناصر الدنيا والإسلام والمسلمين، كما سماه والده ناصر الدنيا والدين، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل.

.الباب الثاني من المقالة العاشرة في الهزليات:

اعلم أنه ربما اعتنت الملوك ببعضه، فاقترحت على كتابها إنشاء شيء من الأمور الهزلية، فيحتاجون إلى الإتيان بها على وفق غرض ذلك الملك، كما وقع لمعين الدولن بن بويه الديلمي في اقتراحه على أبي إسحاق الصابي كتابة عهد بالتطفل، لرجل كان عنده اسمه عليكا، ينسب إلى التطفل، ويسخر منه السلطان بسبب ذلك.
وهذه نسخة عهد بالتطفل، التي أنشأها أبو إسحاق الصابي لعليكا المذكور: هذا ما عهد علي بن أحمد المعروف بعليكا إلى علي بن عرس الموصلي، حين استخلفه على إحياء سننه، واستنابه في حفظ رسومه، من التطفل على أهل مدينة السلام وما يتصل بها من أرباضها وأكنافها، ويجري معها في سوادها وأطرافها، لما توسمه فيه من قلة الحياء، وشدة اللقاء، وكثرة اللقم، وجودة الهضم ورآه أهلاً له من سد مكانه، والرفاهه المهملة التي فطن لها، والرقاعة المطرحة التي اهتدى إليها، والنعم العائدة على لابسيها بملاذ الطعوم، وخصب الجسوم، وردا على من اتسعت حاله، وأقدره الله على غرائب المأكولات، وأظفره ببدائع الطيبات، آخذاً من ذلك كله بنصيب الشريك المناصف، وضارباً فيه بسهم الخليط المفاوض، ومستعملاً للمدخل اللطيف عليه، والمتولج العجيب إليه، والأسباب التي ستشرح في مواضعها من أوامر هذا الكتاب، وتستوفى الدلالة على ما فيها من رشاد وصواب؛ وبالله التوفيق وعليه التعويل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله التي هي الجانب العزيز، والحرز الحريز، والركن المنيع، والطود الرفيع، والعصمة الكالئة، والجنة الواقية، والزاد النافع يوم المعاد، وحيث الأمثلة من الأزواد، وأن يستشعر خيفته في سره وجهره، ويراقبه في قوله وفعله، ويجعل رضاه مطلبة، وثوابه مكسبة والقربة منه أربة، والزلفى لديه غرضه، ولا يخالفه في مسعاة قدم، ولا يتعرض عنده لعاقبة ندم، ولا يقدم على ما كره وأنكر، ولا يتقاعس عما أحب وأمر.
وأمره أن يتأدب بأدبه فيما يأتي ويذر، ويقف على حدوده فيما أباح وحظر، فإنه إذا كان ذلك هجيراه وديدنه، وجرى عليه منهاجه وسننه، تكفل الله له بالنجاح والصلاح، وأفضى به إلى الرشاد والفلاح، وأظفره بكل بغية، وأوصله إلى كل مشية، ولم يخله من الفوز بما يرصد، والحوز بما يقصد؛ بذاك وعد، وكذاك يفعل؛ وما توفيقنا إلا بالله، ولا مرجعنا إلا إليه.
وأمره أن يتأمل اسم التطفيل ومعناه، ويعرف مغزاه ومنحاه، ويتصفحه تصفح الباحث عن حظه بمحموده، غير القائل فيه بتسليمه وتقليده، فإن كثيراً من الناس قد استقبحه ممن فعله، وكرهه لمن استعمله، ونسبه فيه إلى الشره والنهم، وحمله منه على التفه والقرم؛ فمنهم من غلط في استدلاله، فأساء في مقاله، ومنهم من شح على ماله، فدافع عنه باحتياله؛ وكل الفريقين مذموم، وجميعهما ملوم؛ لا يتعلقان بعذر واضح، ولا يعتريان من لباس فاضح؛ ومنهم الطائفة التي ترى فيها شركة العنان: فهي تتدله إذا كان لها، وتتدلى عليه إذا كان لغيرها، وترى أن المنة في المطعم للهاجم الآكل، وفي المشرب للوارد الواغل؛ وهي أحق بالحرية، وأخلق بالخيرية وأحرى بالمروة، وأولى بالفتوة؛ وقد عرفت بالتطفيل، ولا عار فيه عند ذوي التحصيل، لأنه مشتق من الطفل وهو وقت المساء وأوان العشاء، فلما كثر استعمل في صدر النهار وعجزه، وأوله وآخره، كما قيل للشمس والقمر: قمران وأحدهما القمر، ولأبي بكر وعمر: العمران وأحدهما عمر؛ وقد سبق إمامنا بيان رحمة الله عليه إلى هذا الأمر سبقاً أوجب له خلود الذكر، فهو باق بقاء الدهر، ومتجدد في كل عصر؛ وما نعرف أحداً نال من الدنيا حظوظها فبقي له منه أثر يخلفه، وصيت يستبد به إلا هو وحده، فبيان رضوان الله عليه يذكر بتطفيله كما تذكر الملوك بسيرها؛ فمن بلغ إلى نهايته، أو جرى إلى غايته، سعد بغضارة عيشه في يومه، ونباهة ذكره في غده؛ جعلنا الله جميعاً من السابقين إلى مداه، والمذكورين كذكره.
وأمره أن يعتمد موائد الكبراء والعظماء بغزاياه، وسمط الأمراء والوزراء بسراياه، فإنه يظفر منها بالغنيمة الباردة؛ ويصل عليها إلى الغريبة النادرة؛ وإذا استقراها وجد فيها من طرائف الألوان، الملذة للسان، وبدائع الطعوم، السائغة في الحلقوم، ما لا يجده عند غيره غيرهم، ولا يناله إلا لديهم، لحذق صناعتهم، وجودة أدواتهم، وانزياح عللهم، وكثرة ذات بينهم؛ والله يوفر من ذلك حظنا، ويسدد نحوه لحظنا، ويوضح عليه دليلنا، ويسهل إليه سبيلنا.
وأمره أن يتبع ما يعرض لموسري التجار، ومجهزي الأمصار، من وكيرة الدار، والعرس والإعذار، فإنهم يوسعون على نفوسهم في النوائب، بحسب تضييقهم عليها في الراتب؛ وربما صبروا على تطفيل المتطفلين، وأغضوا على تهجم الواغلين، ليتحدثوا بذلك في محافلهم الرذلة، ويعدوه في مكارم أخلاقهم النذلة؛ ويقول قائلهم الباجح باتساع طعامه، المباهي بكثرة حطامه؛ إنني كنت أرى الوجوه الغريبة فأطعمها، والأيدي الممتدة فأملوها. وهذه طائفة لم ترد بما فعلته الكرم والسعة، وإنما أرادت المن والسمعة؛ فإذا اهتدى الأريب إلى طرائقها وصل إلى بغيته من إعلان قضيتها، وفاز بمراده من ذخائر حسنتها، إن شاء الله.
وأمره أن يصادق قهارمة الدور ومدبريها، ويرافق وكلاء المطابخ وحماليها، فإنهم يملكون من أصحابهم أزمة مطاعمهم ومشاربهم، ويضعونها بحيث يحبون من أهل موادتهم ومعارفهم؛ وإذا عدت هذه الطائفة أحداً من الناس خليلاً من خلانها، واتخذته أخاً من إخوانها، سعد بمرفقتها، ووصل إلى محابه من جهاتها، ومآربه في جنباتها.
وأمره أن يتعهد أسواق المسوقين، ومواسم المتبايعين؛ فإذا رأى وظيفة قد زيد فيها، وأطعمة قد احتشد مشتريها، اتبعها إلى المقصد بها، وشيعها إلى المنزل الحاوي لها، واستعلم ميقات الدعوة، ومن يحضرها من أهل النسيان والمروة، فإنه لا يخلو فيهم من عارف به يراعي وقت مصيره إليها ليتبعه، ويكمن له ليصحبه ويدخل معه؛ وإن خلا من ذلك اختلط بزمر الداخلين، وعصب الراحلين؛ فما هو إلا أن يتجاوز عتب الأبواب، ويخرج من سلطان البوابين والحجاب، حتى يحصل حصولاً قل ما حصل عليه أحد قبله فانصرف عنه إلا ضليعاً من الطعام، بريقاً من المدام، إن شاء الله.
وأمره أن ينصب الأرصاد على منازل المغنيات والمغنين، ومواطن الأبليات والمخنثين؛ فإذا أتاه خبر لجمع يضمهم، ومأدبة تعمهم، ضرب إليها أعناق إبله، وأمضى نحوها مطايا خيله، وحمل عليها حملة الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، والليث الهاصر، والعقاب الكاسر إن شاء الله.
وأمره أن يتجنب مجامع العوام المقلين، ومحافل الرعاع المقترين، وأن لا ينقل إليها قدماً ولا يعفر لمأكلها فماً، ولا يلقى في عتب دورها كيساناً، ولا يعد الرجل منها إنساناً، فإنها عصابة يجتمع لها ضيق النفوس والأحلام، وقلة الأحكام والأموال؛ وفي التطفيل عليها إجحاف بها يوسم، وإزراؤه بمروءة المتطفل يوصم؛ والتجنب لها أحرى، والأزورار عنها أحجى، إن شاء الله.
وأمره أن يحزر الخوان إذا وضع، والطعام إذا نقل، حتى يعرف بالحدس والتقريب، والبحث والتنقيب، عدد الألوان في الكثرة والقلة، وافتنانها في الطيب واللذة، فيقدر لنفسه أن يشبع مع آخرها، وينتهي منها عند انتهائها، ولا يفوته النصيب من كثيرها وقليلها، ولا يخطئه الحظ من دقيقها وجليلها. ومتى أحس بقلة لطعام، وعجزه عن الأقوام، أمعن في أوله إمعان الكيس من سعته، الرشيد في أمره، المالئ لبطنه، من كل حار وبارد، وخبيث وطيب. فإنه إذا فعل ذلك سلم من عواقب الأغمار الذين يكفون تطرفاً، ويقلون تأدباً، ويظنون أن المادة تبلغهم في آخر أمرهم، وتنتهي بهم إلى غاية سعيهم، فلا يلبثوا أن يخجلوا خجلة الواثق، وينقلبوا بحسرة الخائب، أعاذنا الله من مثل مقامهم، وعصمنا من شقاء جدودهم، إن شاء الله.
وأمره أن يروض نفسه، ويغالط حسه، ويضرب عن كثير مما يلحقهصفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصمم عن الفحشا؛ وإن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه، وإن وقعت به الصفعة في رأسه، صبر عليها لموقع أضراسه، وإن لقيه لاق بالجفاء، قابله باللطف والصفاء، إذ كان قد ولج الأبواب، وخالط الأسباب؛ وجلس مع الحضور، وامتزج بالجمهور، فلا بد أن يلقاه المنكر لأمره، ويمر به المستغرب لوجهه؛ فإن كان حراً حيياً أمسك وتذمم، وإن كان فظاً غليظاً همهم وتكلم، وتجنب عند ذلك المخاشنة، واستعمل مع المخاطب له الملاينة، ليبرد غيظه، ويفل حده، ويكف غربه، ويأمن شغبه؛ ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف، وأنست النفوس به فألف، ونال من المحال المجتمع عليها منال من حشم وسئل الذهاب إليها.
وقد بلغنا أن رجلاً من العصابة كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفل على وليمة، لرجل ذي حال عظيمة، فقرمته فيها من القوم العيون، وصرفت بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم: من تكون أعزك الله؟ فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق. قيل له: وكيف ذاك ونحن لا نعرفك؟ فقال: إذا رأيت صاحب الدار عرفني وعرفته نفسي؛ فجيء به إليه، فلما رآه بدأه بأن قال له: هل قلت لطباخك: أن يصنع طعامك زائداً على عدد الحاضرين، ومقدار حاجة المدعوين؟ قال: نعم! فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها يستظهر لمن جرى مجراي، وهي رزق لنا أنزله الله على يدك وبك، فقال له: كرامة ورحباً، وأهلاً وقرباً؛ والله لا جلست إلا مع علية الناس ووجوه الجلساء، إذ أطرفت في قولك وتفننت في فعلك. فليكن ذلك الرجل إماماً يقتدى به، ويقتفى طريقه، إن شاء الله.
وأمره بأن يكثر من تعاهد الجوراشنات المنفذة للسدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبل الانهظام، فإنها عماد أمره وقوامه، وبها انتظام والتئامه؛ إذ كانت تعين على عمل الدعوتين، وتنهض في اليوم الواحد الأكلتين؛ وهو يتنأولها كذا كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه، والصانع الذي يحدد آلته، والماهر الذي يصلح أدواته، إن شاء الله.
هذا عهد عليكا بن أحمد إليك، وحجته لك وعليك؛ لم يألك فيه إرشاداً وتوفيقاً، تهذيباً وتثقيفاً، وبعثاً وتبصيراً، وحثاً وتذكبراً؛ فكن بأوامره مؤتمراً، وبزواجره مزدجراً، ولرسومه متبعاً، وبحفظها مضطلعاً، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.